"صيد ثمين "
(English version coming up)
ملاحظة الكاتب
هذه شهادتي. لم تُكتب من مسافة بعيدة، بل من تجربة حيّة — من اقتحام المخابرات المصريّة الفندق المتواجدة فيه في القاهرة بسبب مشاركتي في المسيرة العالمية لكسر الحصار على غزّة، الى محاولات إسكات صوت فلسطين و القمع في ألمانيا، ومشاهدتي للإبادة الجماعية في غزة من بعيد. هذه الكلمات هي صوت غضبي ومقاومتي و تعبير عن انتمائي و انحيازي الكامل لفلسطين. إنها بيان ضد التواطؤ وتذكير بأن الصمت ليس خيارًا! المقاومة هي الحلّ الوحيد!
الكلمتان اللتان مازالتا تترددان في ذهني، منذ ١٧ يونيو/ حزيران الماضي! قالهما مسوؤل وحدة المخابرات المصريّة، مكلّماً طرفاً آخراً، على جهازه اللّاسلكيّ، فرحاً منتصراً، تكاد تظن انّه، حرّر فلسطين "لا سمح الله". اقتحمت هذه الوحدة المؤلّفة من أكثر من ٣٠ عنصراً بلباسهم المدنيّ تمويهاً، الفندق حيث كنّا مقيمين ، وسط القاهرة، تمهيداً لاقتيادنا بالقوّة، كمن يقود ارهابيين، او مطلوبين للعدالة، الى المطار، تمهيداً لترحيلنا. وجودي في القاهرة كان بهدف المشاركة في المسيرة العالمية لكسر الحصار على غزّة.
المسيرة و بسبب النظام المصري الصّهيوني لم تحقق للأسف هدفها الأسمى و هو الوصول إلى رفح و كسر الحصار، و لكنها استطاعت و على مدى اسبوعاً كاملاً ان تقلق راحة نظام السيسي المطبّع و تفضحه. هذا النظام المشارك بابادة شعب غزّة و حصاره. نظام السيسي مرة أخرى، أظهر ولاءه القاطع لإسرائيل من خلال قراره بقمع مسيرة كسر الحصار بكافة الوسائل. ان عبر البروباغاندا التي سبقت المسيرة من الصاق تهمة "المخربين" بالمشاركين، إلى ترهيب المصريين لمنعهم من المشاركة (لم يشارك مصري واحد في المسيرة خوفاً على حياته) ، الى الترحيل المباشر عند الوصول إلى المطار، والتفتيش في أغراض المشاركين الشخصيّة و هواتفهم، الى ملاحقتهم الى فنادقهم و التحقيق معهم في غرف مغلقة، الخ .. و عند محاولتنا الذهاب إلى الإسماعيلية للتوجّه من هناك إلى رفح، ارسل هذا النظام البوليسي القاتل المرتزقة البدو ليقوموا بالواجب. ولسخرية القدر، ان البدو بقيادة ابراهيم العرجاني، هم الأداة التنفيذية الوسخة للنظام المصري ، هو من زاد معاناة أهل غزة عبر فرض ارقاماً خيالية تصل إلى حد ١٠٠٠٠$ على الشخص الواحد للخروج من القطاع مستغلّا ما يتعرّض له القطاع من قتل وجوع وحصار .
ثم تبين ان انبطاح النظام المصريّ أمام الكيان الصهيوني لم يتوقف على قمعه لمسيرة فكّ الحصار على غزّة بل بلغ به التواطؤ وفي ظلّ الابادة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني ان أقدم على إِبرام أكبر صفقة لشراء الغاز بقيمة ٣٥ مليار دولار من دولة الاحتلال، الغاز المسروق اصلاً من الشعب الفلسطيني. هذا الرقم يقارب نصف قيمة خسائر الكيان منذ بداية الحرب الأخيرة على غزّة.
لم اتفاجأ كمواطنة عربية من عمالة النظام المصريّ او اي نظام عربيّ مطبّع مع الاحتلال الصهيوني و لكن ان أعيش ذلك وأرى وأشعر كان أمرا مختلفاً. ان تعيش التجربة وترى الممارسات الوحشيّة ، وما يرتكبه هذا النظام بحق شعبه و المناضلين من اجل أسمى قضية عربية، فلسطين، حماية "للكيان الصهيوني" كان حقيقةً صادماً.
الأنظمة العربية بغالبيتها متواطئة مع هذا الكيان الإسرائيلي في ابادته لغزّة . امّا بصمتها و تخاذلها او بدعمها المباشر او غير المباشر له. هذا الدعم ليس مستغرباً! "فإسرائيل" ككيان امتداد عضوي للغرب الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة الاميركية. و هذه المنظومة العربيّة الحاكمة تعمل لخدمة المنظومة الامبريالية الغربية و تلبية لمصالحها في الشرق الاوسط. فمن هنا لايمكن ان نتوقع او نأمل خيراً من هذه الأنظمة، ولكن الأمل و والتعويل يبقى على الشعوب والنخب العربية ان تتصرف و تكون على مستوى و حجم الجريمة الهمجيّة الهولوكوستيّة التي يتعرض لها أهل غزّة و الشعب الفلسطيني. هذه الهجمة الامبرياليّة المتوحّشة التي تريد الاستيلاء على منطقة الشرق الاوسط بكاملها، و بناسها و مواردها. وهم يتوقعون حدوث ذلك دون أيّ مقاومة، يتوقعون ان يسلّم اهل هذه المنطقة أرضهم للمحتل هكذا بكل سهولة. واذا ما سعى ايًّ كانَ مقاومة هذا المشروع الاستعماري يوصف بالارهابيّ.
الاحتلال و أدواته في الشرق الأوسط و في اوروبا، يخشون المقاومة بكل أشكالها الشعبية السلمية او المسلّحة . لذلك يعملون دائماً على شيطنتها بهدف ضربها. لقد تابعنا جميعاً البروباغاندا الصهيونية عن مقاومة غزّة المسلحة، البروباغاندا والسرديّة التي تبنتها أغلبيّة وسائل الإعلام الاوروبيّة و العالميّة. ان شيطنة المقاومة المسلّحة و وضعها بخانة الإرهاب هو محاولة لسحب مفهوم الانسانيّة منها لإعطاء ذريعة للاحتلال بابادتها و إبادة كل هدف مدني بجانبها وهنا نجد امثالاً كثيرة لسياسيين اوروبيين تبنّوا هذه السرديّة .. مثالاً تصريح وزيرة خارجيّة المانيا السابقة أنّا لينا بيربوك انه "يحقّ لاسرائيل ضرب اي هدف لحماس حتى لو بجابنه مدنيين"!
وحدّث ولا حرج عن جمهوريّة المانيا الاتحاديّة!
المانيا و منذ الثامن من اوكتوبر ٢٠٢٣ أعلنت الحرب على الفلسطينيين و العرب و كلّ المتضامنين مع القضيّة الفلسطينيّة. فكانت المانيا من اول المعلنين عن دعمها غير المشروط للكيان الاسرائيلي، دولة الاحتلال، الاستيطان و الفصل العنصري. حيث أَعلنت ان الأمن القوميّ "لإسرائيل" هو من أمن المانيا القوميّ.
السلاح الذي يقتل الأطفال والنساء في غزة اليوم صنع المانيا. فهذه الأخيرة هي ثاني اكبر مصدر للسلاح للكيان بعد الولايات المتحدّة.
و الاعلام الالماني ايضاً مشارك بالجريمة. فهو ومنذ الثامن من اوكتوبر ينقل السرديّة الإسرائيليّة كما هي دون تدقيق و يساهم كما البروباغندا الإسرائيليّة بتجريد الفلسطيني من انسانيّته، لتشريع قتله.
وحتى في المانيا شرعت السلطات الألمانية "قتل الفلسطينيّ". عندما تجرد السلطات الألمانية الفلسطينيّ من حقه في اللجوء السياسيّ، او حقه في الحصول على جواز سفر الماني او حتى الاقامة بسبب موقف سياسي، او تسلبه حقّه في العمل، او أبسط سبل العيش، فانّها تقتله.
عندما تلاحق السلطات الألمانية الفلسطينيين في المظاهرات و تقمعهم لأنهم ينددون بما يحصل من إبادة بحق أهلهم في غزة، فانها تقتلهم .
عندما تمارس السلطات الألمانية الرقابة القمعية على الفلسطينيين و تلاحق منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعيّ و تمنعهم من التعبير عن رأيهم، وتقتحم منازلهم في اللّيل وتعاملهم معاملة الارهابيّين، و تساهم بشكل مباشر عبر ضغوطات سياسيّة بطردهم من عملهم، فانها تقتلهم.
المانيا باملاءات من الكيان الإسرائيلي اعتبرت ايضاُ الفلسطيني "صيداً ثميناً" و مارست بحقه ابشع انواع "القتل النفسي". المانيا هذه سنحاسبها على كل ذلك و سنأخد ثأرنا من كل من ساهم في قتل، وتشويه صورتنا، و تجريدنا من إنسانيتنا وخاصة الشعب الفلسطيني.
اعيش في المانيا منذ اكثر من ٩ سنوات. ولكني لم استطع ان اتكيّف مع جو هذا البلد البارد. بارد على كل المستويات. الجيولوجيّة، السياسيّة، و الحياتيّة. لكنّ و للأمانة بعد السابع من أكتوبر أصبح العيش هنا كمن يكافح ليبقى فوق سطح المياه للنجاة من الاختناق. المانيا أصبحت تخنق بسبب سياستها ضد كل ما يخص فلسطين و القضيّة الفلسطينيّة.
ولكن في الواقع لا سبيل للنجاة في ظل هذه الابادة! فهذه الابادة حاضرة موجودة في حياتنا اليوميّة كل يوم و منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ أينما كنّا. لقد غيّرت حرب الابادة على غزّة، حياتنا كلّها. غيّرت أهدافنا و نظرتنا الى الحياة. وساعدتنا على فلترة مجتماعاتنا الصّغيرة و "أصدقاءنا" . لقد قسّمت العالم الى قسمين، القسم التابع لحلف الابادة الاستعماريّ الامبرياليّ و الحلف المقاوم الرافض لسياسات الولايات المتحدة الاستعماريّة.
ورفضنا لن يبق مجرّد قولاً. هذا الحلف الرافض للعيش تحت حكم الإملائات الأَميريكيّة الصهيونيّة بدأ بتأسيس مقاومة بوجهها. اليوم يهتف المتضامنون مع القضيّة الفلسطينيّة في اوروبا "نحن المقاومة"، و هم يدعمون المقاومة الفلسطينية بشتى أنواعها و بكل السبل المتاحة. فأصبح العالم على يقين انه لا يمكن دحر هذا الاحتلال سوى بالمقاومة و المقاومة فقط.
فتخيّلوا معي لو انتظمت هذه الجماهير، الخطر الذي يمكن ان تشكلّه على هذه الأنظمة الغربية و العربية الداعمة و المشاركة في الابادة. هذا هو فعلاً ال "صيد ثمين" الذي يوماً ما سيثور على حكامه و أنظمته و يحاسبها على دورها في إبادة الشعب الفلسطيني، هذا الشعب الطيب، الرائع، الخلوق، المقاوم، الصّلب الذي علّم العالم بأجمعه معنى الإنسانيّة و الكرامة.
يسار لولا
كتب في أغسطس 2025
الصورة: جوانا مولّا، استوديو بالامبي