!حَضارَة تُفْرَض بِالقَنابِل
ن غَزَّة إلى لُبْنان، "الجَدِيدُ" الإمبرياليّ ليس سِوَى بربريّة مُعاد تَصْدِيرُها. يسار لولا
(English version coming up)
مَشهَدان مُتَناقِضان
في حين أنّ حياةَ الكثيرينَ انقَلَبَت رَأسًا على عَقِبٍ منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، إلا أنّه في بعضِ أنحاءِ الأرضِ استمرّت. طبيعيٌّ في المفهومِ الكولونياليّ الاستعماريّ الغربيّ، فما يحدثُ في مناطقنا وديارنا — أيّ دول غرب آسيا وأفريقيا — من حروبٍ ودمارٍ وقتلٍ ونهبٍ للثروات، يصبّ في خانةِ الحرص على استمرارية ازدهار وتطور القوى الإمبريالية الغربية.
عندَ التنزهِ عشوائيًا في أيّ حيٍّ من أحياء أوروبا أو أميركا النموذجية، تمرّ بجانبِ منتزهٍ صغير، ترى الأطفالَ يلعبون بطمأنينة بعد خروجهم من المدرسة، يصعدون إلى منازلهم، يأكلون طعامهم، يستحمّون، يخلدون إلى النوم في أسرّتهم الدافئة! ليس كلُّ أطفال العالم محظوظين هكذا. أطفالُ غزّةَ يموتون قتلًا بوحشيّة، جوعًا أو عطشًا، ينزحون من منطقةٍ إلى أخرى، منذ ما يقارب السنتين إلى يومنا هذا، ويعيشون في خيمٍ بلاستيكية بسبب الإبادة والحصار المطبق الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي. أطفال جنوب لبنان هجّروا من بيوتهم، التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي، وحُرموا من دراستهم، وأطفال السودان يعيشون المأساة ذاتها. كذلك أطفال كثيرون في دول جنوب آسيا وأفريقيا. كأنّنا أمام عالمين منفصلين، على كوكب واحد.
عُنصُريّة لَيْسَت صُدْفَة
هذا الانفصال الذي يبدو “طَبيعيًّا” ليس إلا تَناقُضًا طَبَقيًّا اِستِعماريًّا مُقنَّعًا. فإذا تَمَعَّنت النَّظَر، وجدت أنّ أغلِبِيّة سُكَّانِ هذه الأَحياء الغَربيّة، هم أيضًا ضَحايا هذا الاستِعمار. الطَّبقاتُ العاملة والفئات الشّعبيّة المهمَّشة التي تَعيش على فُتاتِ الثَّرَواتِ المَنهوبةِ من بلادنا. في حين تعملُ الأنظمةُ الاستعماريةُ على تلميعِ صورتها عبر تأمينِ “رَفاهٍ نِسْبِيّ” يقوم على استغلالِ ثرواتِ شُعوبنا، يُستَخدَم هذا الرّفاه أداةً لتثبيتِ السلطةِ الحاكمةِ في الداخلِ أو وسيلةً للهيمنةِ في الخارج. وإذا كان هذا الانفصال المُقنَّع يأخذُ أبعادًا عُنصُريةً في بعض الأحيان، يَستوجِب وضعه ضمن ترسّباتِ أنظمةِ الحُكم الاستعمارية الغربية. العُنصُريةُ في الغرب ليست صُدفةً عابرةً، بل هي نَتاجُ تاريخٍ طويلٍ من الاستعمار، طَبَّعتهُ الأنظمةُ السياسية وكرّستهُ مُؤسساتُ التعليم والإعلام والاقتصاد. تراكَمت هذه الموروثات في الوعي الجمعيّ حتى أصبحت تُمارس أحيانًا بشكلٍ تلقائيّ وكأنها جزءٌ طبيعيٌّ من الثقافة، وهي في بنيةِ الأنظمة التي صاغها الاستعمار وحافظت عليها القوى الحاكمة.
لَفتَني حديثًا ما أدلى به الموظف في البيتِ الأبيض، توم برّاك، خلال مؤتمرٍ صحفيٍّ في لبنان، مخاطبًا الصحفيين اللبنانيين قائلًا: “حين يُصبِح الجوّ هنا حيوانيًّا، لا يُمكن الاستمرار هكذا، يجب أن تَتعلّموا أن تُصبِحوا حَضاريّين!” هكذا خطابٌ ليس استثناءً، بل لسانُ حالٍ ذهنيةٍ استعلائية استعماريّة.
مَشروع “الشَّرق الأوسَط الجَدِيد”: اِستِعمار جديد
ما الجديدُ بهذا الخطاب؟ ما الجديدُ بالموضوع؟ ليس إلا محاولةُ الولايات المتحدة الأمريكية مرةً أخرى لتمرير مخطّط “الشرق الأوسط الجديد” في المنطقة. ظهر المصطلح لأول مرة على لسان وزيرةِ الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس في عهد بوش الابن، خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز ٢٠٠٦. أذكر حين وقفت هذه الأخيرة على جثث اللبنانيين ودمار ضاحية بيروت الجنوبية، واصفة المشاهد بأنها جزءٌ من “مخاضِ ولادةِ شرق أوسط جديد”. هذه العبارة عكست الرؤية الاستعمارية الإمبريالية للغرب في إعادةِ تشكيل ورسم خرائط المنطقة سياسيًا، اقتصاديًا وعسكريًا بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي-الصهيوني، عبر القتل والدمار والحروب.
صحيح أنّ المصطلح ظهر حديثًا، لكن الجذور أقدم بكثير. من اتفاقية سايكس–بيكو عام 1916 التي مزّقت جغرافيا المنطقة وفق المصالح الاستعمارية البريطانية والفرنسية، وصولًا إلى مشاريع التقسيم والتفكيك الحديثة، تتكرّر القاعدة نفسها. المخطط يشمل تفكيك قوى المقاومة في فلسطين ولبنان، عزل إيران، وإعادة تقسيم مناطق النفوذ في العراق وسوريا واليمن، وفرض الكيان الصهيوني كقوة محورية استعمارية في المنطقة — إمّا عسكريًا أو عبر اتفاقيات التطبيع، أو بالتدخل العسكري من خلال قواعد أمريكية وقوات متعددة الجنسيات، أو عبر التبعية الاقتصادية من خلال تحكّم الغرب في مقابل الطاقة والتجارة والتكنولوجيا.
بعد ما يقارب العشرين سنة على حرب تموز، يعود هذا المصطلح ليطفو إلى السطح، بالتزامن مع استمرار الإبادة في غزّة والتهجير في الضفة الغربية، والدمار في لبنان، والعدوان على اليمن وسوريا وإيران. اليوم مع غطرسة خطاب استعماري علنيّ وقح، يصرّح عنه الكيان الإسرائيلي يوميًا: “مَشروع إسرائيل الكبرى”.
“الشرقُ الأوسطُ الجديدُ” في خدمةِ “إسرائيلَ الكبرى”
“إسرائيلُ الكبرى” خطةٌ نَشَرَها مسؤول سابق وصحفيّ إسرائيليّ، عُوديد يِنون، عامَ ١٩٨٢، ويُرَدِّدُها قادةُ الكيانِ اليومَ علنًا. يَقضي هذا المشروع بِغَزْو، احتلال، استيطان وضمّ أراضٍ عربيّةٍ أُخرَى للكيان الصهيونيّ، بعدَ إضعافِ الدولِ العربيةِ المحيطةِ عبرَ تَفكيكِها إلى كياناتٍ طائفيةٍ اثنيةٍ صغيرةٍ. اليومَ نَشاهدُ تَبَلورَ هذا المخطّطِ على أرضِ الواقعِ. الكيان الصهيونيّ استولى بعدَ السابعِ من أكتوبرَ على مناطقَ جديدةٍ في غزّةَ، الضفةِ الغربيّةِ، لبنانَ وسوريا، ويَهْدِّدُ يوميًّا أنّه لن يتوقَّفَ حتى يستوليَ ويَضمَّ أراضٍ أُخرَى يَزْعُمُ أنّها حقُّهُ التاريخيُّ، حقُّ “شعبِ اللهِ المُختارِ” على “الأرضِ التي تَعودُ تاريخيًّا لهُم” كما يَزْعُمون! وفي هذا السِّياقِ، يَحِقُّ لهم الاستيلاءُ عليها وقتلُ وإبادةُ سكانِها الأصليّينَ! حقٌّ شَرَّعَتهُ لهمُ القُوى الاستعماريّةُ الإمبرياليّةُ الغربيةُ بقيادةِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيّةِ وإنكلترا وألمانيا.
لبنانُ في قلبِ الاستيطانِ
المخطَّط ذو بُعدٍ إقليميّ، لكنَّ لبنانَ، بما يمثِّلهُ من موقعٍ استراتيجيّ ومقاومة فاعلة في قلبِهِ. تعتبرُ الولايات المتحدة الأميركيّة والكيانُ الصهيونيّ سلاحَ المقاومةِ اللبنانيةِ العقبةَ الأكبرَ أمامَ هذا “المخطَّطِ الجديدِ”. إن نزعَ سلاحِ المقاومةِ سيكونُ الخطوةَ الأولى لتحييدِها وتقويضِ ما تُشكِّلهُ من قوّةٍ رادعةٍ وتهديدٍ وجوديٍّ للكيانِ الإسرائيليّ؛ وستضعفُ هذهِ الخطوةُ لبنانَ، ما يفتحُ للكيانِ الإسرائيليّ فرصتَهُ التاريخيّةَ لتنفيذِ خططهِ التوسّعيّةِ في إطارِ “إسرائيلَ الكبرى”. وإذا نجحَ تطبيقُ هذا النموذجِ في لبنانَ، فمن المرجَّحِ أن يُستنسَخَ في دولٍ أخرى ما تزال تُقاوِمُ التوسُّعَ الاستعماريَّ الاستيطانيَّ الصهيونيَّ.
نقاطُ الترابطِ بينَ الملفاتِ الثلاثِ واضحة: “الشرق الأوسط الجديد” — إعادةُ تشكيلِ المنطقةِ؛ نزعُ سلاحِ المقاومةِ — شرطٌ أساسيٌّ لتنفيذِ هذا المشروعِ؛ المشروعُ الإسرائيليّ الكبير — المستفيد المباشر إذا أتاحَ لهُ التوسُّع والهيمنة على دولِ المنطقةِ وإقامةَ الكيانِ الصهيونيِّ القويِّ وسطَ محيطٍ ضعيفٍ.
“الجَدِيد”: استسلامٌ مقنّع
كلُّ هذهِ المخططاتِ الاستعماريةِ الغربيةِ تأتينا مسقطةً بتعابيرٍ منمّقةٍ. كيف ممكن أن نسلّمَ بحديثٍ عن “شرق أوسط جديد” فرض علينا من وراء البحار؟ أيّ جديدٍ هذا الذي لا ينبتُ من رحمِ إرادةِ شعوبِ المنطقةِ، بل يخطط له في غرفِ المخابراتِ والسفاراتِ؟ جمّلوا مخططاتكم بمفرداتٍ جميلةٍ فارغةٍ كـ “الجَدِيد، الديمقراطية والحرية”، لن تغرينا بشيء، فنحن مدركون أنّ هذه المخططات ليست سوى إعادةِ إنتاجٍ لسياساتِ الاستعمار القديم: تقسيم، تجزئة، إشعالُ فتن طائفية ومذهبية، إضعافُ الشعوب عبر سلبها مقاومتها ونزع عناصر قوتها، لتصبح عرضةً وهدفًا ضعيفًا أمام أيّ عدوان صهيو-أميركي إمبريالي. جديدُكم استسلامٌ مقنّعٌ.
حين يُطلَق وصف “الجَدِيد” على دماءِ شهدائنا وركامِ منازلنا في بيروت، وصور، والخيام، وكفركلا، وشمع، فلا يمكن تسميته إلا همجيةً وبربريةً استعمارية. أيّ “شرق أوسط جديد” هذا الذي تتحدثون عنه؟ شرقُ أوسط يقوم على التبعية الاقتصادية لواشنطن، والكيان الصهيوني، والرياض، ويُفرض علينا فيه شروطُ صندوق النقد الدولي، ويُغرقنا بالديون، ويُبتزّ شعبنا بأموال إعادة الإعمار، حتى يصبح القرار في يد الخارج، فيُخضعنا لإرادته.
أتساءل هنا: هل يمكن أن تكون الصواريخُ والأسلحةُ هي “الجَدِيد” الذي تتحدث عنه الولايات المتحدة الأميركية؟ صواريخُ اختُبرت فعاليتها على أجسادنا وبيوتنا، عشنا تحت نارها، واختبرنا معناها الحقيقي بعيدًا عن إداناتِ محكمة العدل الدولية، ومجلس الأمن الدولي، والأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان. إنّ هذا “الجَدِيد” نحمله في ذاكرتنا: صوتُ الصواريخ وهي تنهال فوق رؤوسنا، يسبق دويّها ارتجاجُ الجدران، ويوقظ الرعبَ في القلوب، ويخلّف وراءه دمارًا نفسيًا وماديًا.
جديدُكم احتفظوا به لأنفسكم. ما نطمح إليه هو الحياةُ بكرامةٍ وأمانٍ، بحقّنا في تقرير مصيرنا وفي أن نعيش في أرضنا دون وصاية أو احتلال أو استيطان. نريد حريةً وعدالةً على مقياسِ تطلّعاتِ شعوبنا، وليس على مقياسِ مصالحكم ومخططاتكم.
الحَضارَةُ المَزْعُومَةُ
كلُّ ما يُفعلُ بنا يُبرَّر تحتَ رايَةِ “التحضُّرِ”. يُصوِّرُنا الاستِعمَارُ الإِمبريالِيُّ بأنَّنا “مُتخلِّفون” و”غيرَ مُتطوِّرين” و”إرهابيّون”، بينما هُم وحدَهُم رُموزُ “التطوُّرِ” و”الحَضارَةِ” و”السَّلامِ”. أقولُ لهم: إن كانتْ هذهِ هيَ الحَضارَةُ التي ستَجْلِبونَها لنا — نَماذِجُ أفغانِستانَ، العِراقِ سَجْنُ أَبو غَريبَ، و غوانتَنامو — فَخُذوها إذًا، ودَعونا في “تخلُّفِنا”!
الحقيقةُ أنَّ الإرهابَ صُنِعَ في مَصانِعِ أسلِحتِهم، والعَنفُ نُسِجَ في تاريخِ نَشأتِهم، والجَهْلُ يَسْكُنُ ماضِيهِم وحاضِرِهِم؛ لُصوصٌ وغُزاةُ القَرنِ الحادِي والعِشرِينَ. اترُكونَـا نَعيشُ بِسَلامٍ: ابتعدوا عن أَرضِنا، عن هَوائِنا، عن مِياهِنا، عن ناسِنا، عن عُقولِنا، وعن ثَرَواتِنا وحَضارَتِنا. راقِبونا مِن بَعيدٍ، فَرُبَّما تَتعلَّمونَ شَيئًا عن الإنسانيّةِ وعن مَعنى التَّحضُّرِ الحَقيقيِّ.
التضامنُ الأمميُّ لمواجهةِ الاستعمارِ
طَبيعيّ أنني لا أناشِدُ المستعمِرَ بالكفّ عن احتلالِنا. هذهِ الهجمة الإمبريالية المتوحشة يجب علينا مواجهتَها، ومواجهةُ هذه المشاريعِ الاستعماريةِ الغربيةِ هي مسؤوليةٌ جماعيةٌ عابرةٌ للحدودِ. فهي لا تخصُّ شعبًا واحدًا أو دولةً بعينها، خصوصًا أنَّ هذه المخططات تُصاغ وتُدار من قلبِ العواصمِ الغربيةِ. إنها معركةٌ إنسانيةٌ من أجل العدالةِ، الحريةِ، وحقِّ الشعوبِ في تقريرِ مصيرِها. التضامنُ لا يُقاس بالكلماتِ أو التعاطفِ وحده، بل بخطواتٍ فعليةٍ تُمارسُ ضغطًا شعبيًّا حقيقيًّا على الأنظمةِ. في الغرب، عبر تحريكِ الرأي العامِّ للضغطِ على الحكوماتِ كي توقف استثمارَها السياسيَّ والعسكريَّ والاقتصاديَّ في مشاريع الاستعمار. وفي العالم العربي، عبر الضغطِ على الأنظمةِ لوقفِ التطبيعِ مع الكيانِ الصهيونيِّ، وفكِّ الارتباطِ بسياساتِ التبعية الاقتصادية والعسكرية للغرب، والانحياز أخيرًا إلى إرادةِ شعوبِها الرافضةِ للاستعمارِ الجديد.
المُقاومة: أفُق الشعوب
في النهاية، يبقى التعويلُ الأكبرُ على المقاومةِ التي أثبتت التجاربُ التاريخيةُ فعاليّتها. فالاحتلالُ الأميركي انهزمَ في فيتنام أمام صمودِ شعبٍ أعزلَ إلّا من إرادتهِ. والاستعمارُ الفرنسيُّ أُجبِرَ على الرحيلِ من الجزائرَ بعد أكثرَ من 130 عامًا بفضلِ كفاحِ الجزائريينَ. وفي جنوبِ أفريقياَ، سقطَ نظامُ الفصلِ العنصريِّ تحتَ ضغطِ المقاومةِ الداخليةِ والتضامنِ العالميِّ. هذهِ النماذجُ تؤكّدُ أنَّ الاستعمارَ، مهما طالَ، مصيرهُ الانكسارُ أمامَ صمودِ الشعوبِ وتمسّكِها بحقِّها في الحريةِ والكرامةِ. ومنطقتُنا ليست استثناءً.
مشاريعُكم التي تحاولون فرضَها علينا من وراءِ البحارِ، سنحطّمُها ونكسرُها. قد يكونُ “جديدُكم” استباحةَ أراضٍ، مجازرًا ودمارًا، لكنَّ جديدَنا الحقيقيَّ هو صمودُنا، مقاومتُنا، حريّتُنا، وحقُّنا في تقريرِ مصيرِنا في بلادِنا وإرادتُنا التي ستقتلعُ آثارَ همجيّتِكم من مناطقِنا.